في خطوة وُصفت بأنها الأكثر تأثيرًا في مشهد التكنولوجيا العالمي منذ عقد، أعلن وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت، أن الولايات المتحدة والصين توصلتا إلى اتفاق نهائي لنقل ملكية النسخة الأمريكية من تطبيق "تيك توك" إلى مجموعة من المستثمرين الأمريكيين، في صفقة بلغت قيمتها نحو 14 مليار دولار.
الصفقة التي جرى التفاوض حولها لسنوات طويلة، تمثل نهاية فصول من التوتر السياسي والاقتصادي بين واشنطن وبكين، وتؤسس لمرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين بعد سنوات من الشكوك حول الأمن الرقمي وملكية البيانات.
تفاصيل الاتفاق التاريخي
قال بيسنت في مقابلة مع برنامج Face the Nation على شبكة CBS:
"لقد توصلنا إلى اتفاق نهائي بشأن تيك توك. أُبرم الاتفاق في مدريد، وأعتقد أن جميع التفاصيل قد تم حسمها، وسيتم توقيعه رسميًا خلال اجتماع الزعيمين يوم الخميس المقبل في كوريا الجنوبية."
وأوضح أن الاتفاق يشكل جزءًا من حزمة تجارية شاملة بين الولايات المتحدة والصين، تتضمن ملفات اقتصادية وتقنية متعددة. ومن المنتظر أن يُعلن عن تفاصيل إضافية خلال لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الصيني شي جين بينغ على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC) في العاصمة الكورية سول.
صفقة بقيمة 14 مليار دولار
بحسب صحيفة الجارديان البريطانية، تبلغ قيمة الصفقة 14 مليار دولار، وستؤدي إلى إنشاء كيان جديد يُعرف باسم "تيك توك أمريكا"، سيكون تحت سيطرة غالبية من المستثمرين الأمريكيين والدوليين الذين سيمتلكون حوالي 65% من الأسهم.
في المقابل، ستحتفظ شركة "بايت دانس" (ByteDance) الصينية، المالكة الأصلية للتطبيق، بنسبة تقل عن 20%، بينما سيتم توزيع الحصة المتبقية على مستثمرين آسيويين وأوروبيين.
وسيكون للمستثمرين الأمريكيين التحكم الكامل في خوارزمية "تيك توك"، وهي النقطة التي كانت محور الخلاف لسنوات، إذ اعتبرت واشنطن أن الخوارزمية تمثل جوهر قوة المنصة ومصدر قلق أمني محتمل.
كما ينص الاتفاق على أن ستة من أصل سبعة مقاعد في مجلس الإدارة ستكون للمستثمرين الأمريكيين، ما يمنحهم السيطرة الفعلية على قرارات الشركة التشغيلية والسياسات المتعلقة بالمحتوى والبيانات داخل الولايات المتحدة.
من يقف وراء الكيان الجديد؟
كشفت تقارير إعلامية أمريكية أن مجموعة من أبرز رجال الأعمال والمستثمرين يقفون خلف الصفقة الجديدة.
ومن أبرز الأسماء المطروحة:
- روبرت مردوخ: مالك شبكة "فوكس نيوز" وعدد من المؤسسات الإعلامية المحافظة، وهو أحد الداعمين لسياسات ترامب الاقتصادية والإعلامية.
- لاري إليسون: مؤسس شركة "أوراكل" (Oracle)، الذي كان من أوائل من دعموا فكرة الاستحواذ على بيانات تيك توك في عام 2020 لضمان بقائها داخل الأراضي الأمريكية.
- كما تداولت مصادر أن بارون ترامب، نجل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب البالغ من العمر 19 عامًا، قد يُطرح اسمه كعضو محتمل في مجلس إدارة الشركة، وهو ما أثار جدلًا واسعًا بين المعارضين الذين وصفوا ذلك بأنه تضارب مصالح واضح بين السياسة والاقتصاد.
خلفية الأزمة: من الحظر إلى الشراء
بدأت أزمة "تيك توك" بين واشنطن وبكين في عام 2020 عندما أعلن ترامب نيته حظر التطبيق نهائيًا في الولايات المتحدة بدعوى تهديده للأمن القومي، بعد تقارير أفادت بأن الشركة الصينية تجمع بيانات المستخدمين الأمريكيين.
وقتها، عرضت شركات كبرى مثل "مايكروسوفت" و"أوراكل" الدخول في مفاوضات للاستحواذ على عمليات "تيك توك" داخل أمريكا، لكن الخلافات السياسية عطلت التنفيذ.
وفي عام 2024، أصدر الكونغرس الأمريكي قانونًا يلزم "بايت دانس" بالتخارج من ملكيتها للتطبيق خلال عام واحد، وإلا سيتم حظر التطبيق بالكامل.
إلا أن إدارة ترامب آنذاك قررت تمديد المهلة أربع مرات متتالية، مراعاة للمفاوضات التجارية التي كانت جارية مع الصين، وصولًا إلى هذه الصيغة النهائية التي أُعلن عنها الآن.
أبعاد اقتصادية وسياسية عميقة
يرى المراقبون أن هذه الصفقة تتجاوز كونها مجرد صفقة تجارية، بل تمثل تسوية سياسية واقتصادية أوسع بين أكبر اقتصادين في العالم.
فواشنطن، التي طالما اشتبهت في استخدام بكين للتطبيق كوسيلة لجمع البيانات أو التأثير الثقافي، نجحت الآن في فرض سيطرة أمريكية كاملة على خوارزمية التطبيق داخل أراضيها.
من جهة أخرى، وافقت الصين على التنازل جزئيًا عن ملكية أحد أكثر تطبيقاتها نجاحًا عالميًا، مقابل الحصول على امتيازات تجارية جديدة في مجالات التكنولوجيا والطاقة والزراعة، سيتم الإعلان عنها ضمن اتفاق أشمل الخميس المقبل.
ردود فعل متباينة
أثارت الصفقة موجة واسعة من الجدل داخل الأوساط السياسية والإعلامية الأمريكية.
فبينما رحّب مؤيدو ترامب بالاتفاق ووصفوه بـ"الانتصار للسيادة الرقمية الأمريكية"، أعرب معارضوه عن مخاوفهم من تضارب المصالح، خاصة بعد ورود اسم نجله ضمن المرشحين لمجلس الإدارة.
من جانبها، أصدرت شركة "بايت دانس" بيانًا مقتضبًا أكدت فيه احترامها للاتفاق الجديد، مشيرة إلى أنها ستواصل التعاون مع الجانب الأمريكي لضمان انتقال سلس وشفاف للملكية، مع الحفاظ على حقوق المستخدمين الحاليين البالغ عددهم أكثر من 150 مليون مستخدم أمريكي.
مستقبل "تيك توك أمريكا"
يتوقع خبراء التكنولوجيا أن يشهد التطبيق إعادة هيكلة شاملة خلال العام المقبل، تشمل تحديثات أمنية وإدارية، وتغييرًا في سياسات المحتوى والإعلانات.
كما قد يتم نقل خوادم البيانات بالكامل إلى داخل الأراضي الأمريكية، بالتعاون مع شركات تقنية محلية لضمان الامتثال للقوانين الأمريكية الخاصة بحماية الخصوصية.
في المقابل، يعتقد بعض المحللين أن "تيك توك" بعد عملية الاستحواذ قد يفقد جزءًا من جاذبيته العالمية، خصوصًا في حال تغيير خوارزميته أو فرض رقابة أكبر على المحتوى، ما قد يؤثر على تجربة المستخدمين.
مغزى الصفقة في الحرب التكنولوجية الكبرى
تأتي هذه الصفقة في وقت تتسارع فيه المنافسة التكنولوجية بين واشنطن وبكين في مجالات الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات والبيانات الضخمة.
ويرى مراقبون أن "تيك توك" كانت رمزًا لهذه الحرب، إذ تمثل نموذجًا لقوة الشركات الصينية في اختراق السوق الأمريكي والسيطرة على الثقافة الرقمية لدى الشباب.
وبتحقيق هذا الاتفاق، تكون الولايات المتحدة قد أعادت السيطرة على واحدة من أكثر المنصات تأثيرًا في الجيل الجديد، مما يمنحها نفوذًا أكبر في تشكيل الخطاب الإعلامي العالمي خلال السنوات القادمة.
اتفاق يفتح صفحة جديدة
بينما يترقب العالم توقيع الاتفاق رسميًا خلال أيام، يرى الخبراء أن صفقة "تيك توك أمريكا" قد تصبح نقطة تحول تاريخية في العلاقات بين واشنطن وبكين.
فهي ليست مجرد عملية بيع تطبيق ترفيهي، بل صفقة تكنولوجية–سياسية كبرى تعيد رسم خريطة النفوذ الرقمي العالمي.
وفي وقت تستعد فيه الإدارة الأمريكية للإعلان عن اتفاق تجاري شامل مع الصين يتضمن ملفات الزراعة والطاقة والأمن السيبراني، يبدو أن "تيك توك" كانت القطعة الأخيرة في لغزٍ معقد دام خمس سنوات من المفاوضات والتوترات.
وهكذا، تتحول منصة الفيديو القصير التي بدأت كوسيلة ترفيه إلى أداة تفاوض دولية ترسم ملامح المستقبل الرقمي بين أقوى دولتين في العالم.
.jpg)