خلال العقد الأخير، تطورت الألعاب من مجرد وسيلة للترفيه إلى أداة نفسية وطبية محتملة تساعد في تحسين المزاج، وتقليل القلق، وحتى علاج بعض الاضطرابات العقلية. هذه الفكرة، التي بدت يومًا خيالية، أصبحت اليوم موضوعًا علميًا جادًا تدرسه الجامعات وتتبناها بعض المؤسسات العلاجية حول العالم. فهل يمكن فعلًا أن تصبح الألعاب علاجًا نفسيًا؟ وكيف يمكن أن تعمل على شفاء العقل كما ترفّه عن النفس؟
أولًا: العلاقة بين اللعب والصحة النفسية
اللعب، بطبيعته، جزء أساسي من السلوك الإنساني منذ الطفولة. من خلاله نكتشف العالم، ونتعلم التفاعل، ونفرغ طاقاتنا العاطفية.
لكن في العصر الرقمي، اتخذ اللعب شكلًا جديدًا عبر الألعاب الإلكترونية التي أصبحت تجربة غامرة وتفاعلية تشد الانتباه وتؤثر على المشاعر والمخ.
الأبحاث الحديثة تشير إلى أن بعض أنواع الألعاب يمكن أن تفعّل في الدماغ مناطق مسؤولة عن:
- المكافأة والتحفيز (إفراز الدوبامين).
- التركيز والانتباه.
- المرونة المعرفية (القدرة على التكيف مع التحديات).
هذه العمليات العصبية نفسها تلعب دورًا في العلاج النفسي، ما جعل العلماء يفكرون في استخدام الألعاب كأداة داعمة للعلاج.
ثانيًا: كيف يمكن للألعاب أن تساعد نفسيًا؟
1. التنفيس عن التوتر والقلق
تُعد الألعاب مساحة آمنة للهروب المؤقت من الواقع وضغوطه، ما يمنح العقل فرصة للراحة وإعادة التوازن.
حتى الألعاب البسيطة مثل “Tetris” أظهرت قدرة على خفض مستويات القلق وتنظيم التفكير بعد الصدمات.
2. تحفيز مشاعر الإنجاز والسيطرة
في كثير من الاضطرابات النفسية، يشعر الشخص بفقدان السيطرة على حياته.
لكن الألعاب تمنحه فرصة لتحقيق إنجازات صغيرة ومتكررة — كالفوز في مهمة أو حل لغز — مما يعزز الثقة بالنفس ويعيد الشعور بالقدرة.
3. التواصل الاجتماعي وتحسين المزاج
الألعاب متعددة اللاعبين تتيح التفاعل مع الآخرين في بيئة آمنة.
بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من العزلة أو الاكتئاب، يمكن أن تكون وسيلة لتكوين صداقات وشعور بالانتماء، وهو عنصر أساسي في التعافي النفسي.
4. تحسين التركيز والإدراك
ألعاب الفيديو الاستراتيجية أو التعليمية يمكن أن تحسن الوظائف التنفيذية للدماغ، مثل التركيز وحل المشكلات، مما يساعد مرضى اضطراب فرط الحركة أو الاكتئاب على تدريب عقولهم بطريقة ممتعة.
5. المساعدة في العلاج السلوكي المعرفي (CBT)
بعض الألعاب مصممة خصيصًا لمحاكاة جلسات العلاج السلوكي المعرفي، حيث تُعرّض اللاعب لمواقف معينة تساعده على التعامل مع الخوف أو التفكير السلبي بشكل تدريجي.
ثالثًا: أمثلة على ألعاب تُستخدم في العلاج
-
EndeavorRx
هي أول لعبة فيديو تحصل على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) كعلاج للأطفال المصابين باضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD).
اللعبة مصممة لتحسين التركيز والانتباه من خلال تحديات ذهنية سريعة. -
SPARX
لعبة طُوّرت في نيوزيلندا لعلاج الاكتئاب عند المراهقين.
تعتمد على مغامرة خيالية يتعلم فيها اللاعب التحكم في أفكاره السلبية من خلال مهام داخل اللعبة مستوحاة من العلاج السلوكي. -
Sea Hero Quest
صممت هذه اللعبة لجمع بيانات تساعد العلماء على فهم الخرف وأمراض الذاكرة، وفي الوقت نفسه تُحفّز الذاكرة المكانية لدى اللاعبين. -
SuperBetter
ليست مجرد لعبة، بل منصة لتشجيع المستخدمين على تبني عقلية “البطل” لمواجهة التحديات اليومية النفسية والجسدية، مثل الاكتئاب أو القلق.
رابعًا: الجانب العلمي — كيف تؤثر الألعاب على الدماغ؟
تشير دراسات التصوير العصبي إلى أن اللعب المنتظم يمكن أن:
- يزيد من حجم المادة الرمادية في مناطق الدماغ المرتبطة بالتحكم العاطفي.
- يرفع مستويات الدوبامين والسيروتونين، وهما الناقلان العصبيان المرتبطان بالمزاج الجيد.
- يعزز الاتصال العصبي بين الفصوص الأمامية (التفكير المنطقي) والجهاز الحوفي (العاطفة).
وهذا يعني أن الألعاب يمكن أن تكون بمثابة تمرين ذهني وعاطفي، يشبه ممارسة التأمل أو العلاج السلوكي لكن بطريقة تفاعلية وجذابة.
خامسًا: متى تكون الألعاب ضارة؟
بالطبع، ليست كل الألعاب مفيدة نفسيًا. فالإفراط في اللعب يمكن أن يؤدي إلى:
- الإدمان وفقدان التوازن بين الحياة الواقعية والافتراضية.
- العزلة الاجتماعية عند الاعتماد المفرط على العالم الرقمي.
- زيادة التوتر في بعض الألعاب التنافسية أو العنيفة.
لذلك، الاستخدام العلاجي للألعاب يجب أن يكون منظمًا وموجهًا، وتحت إشراف مختصين، تمامًا كما تُستخدم الأدوية بجرعات محددة.
سادسًا: مستقبل “العلاج بالألعاب”
المستقبل يبدو واعدًا. فمع تطور الواقع الافتراضي (VR) والذكاء الاصطناعي، سيصبح بالإمكان تصميم علاجات رقمية مخصصة لحالة كل مريض.
على سبيل المثال:
- ألعاب لتقليل الخوف من المرتفعات عبر محاكاة آمنة.
- تجارب تفاعلية لمساعدة الجنود على التعامل مع اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
- بيئات افتراضية تساعد مرضى القلق على ممارسة التحكم في التنفس والاسترخاء.
وتشير بعض التوقعات إلى أن الألعاب قد تصبح جزءًا أساسيًا من العيادات النفسية الرقمية خلال السنوات القادمة، تمامًا مثل العلاج بالكلام أو الأدوية.
سابعًا: خلاصة
الألعاب ليست مجرد وسيلة لهروبنا من الواقع، بل يمكن أن تكون طريقًا للعودة إليه بشكل أقوى وأكثر توازنًا.
فهي تتيح لنا إعادة تدريب عقولنا على التفكير الإيجابي، والتعامل مع الخوف، وبناء الثقة بالنفس بطريقة آمنة وتفاعلية.
ومع ازدياد الأبحاث والتقنيات الداعمة، يبدو أن السؤال لم يعد: “هل يمكن للألعاب أن تصبح علاجًا نفسيًا؟”
بل أصبح: “متى سنراها جزءًا أساسيًا من الطب النفسي الحديث؟”
