في كرة القدم، يُنظر إلى حارس المرمى عادة على أنه "المدافع الأخير"، الرجل الذي يقف بين الفريق والهزيمة، وظيفته الأساسية التصدي للكرات ومنع الأهداف.
لكن على مدار العقود الأخيرة، تطوّر هذا الدور بشكل كبير، ليتحوّل الحارس من مجرد عنصر دفاعي إلى جزء أساسي في بناء الهجمات وتنظيم الفريق، بل وحتى صانع للأهداف أحيانًا.
من مانويل نوير إلى إيدرسون، ظهر جيل جديد من الحراس الذين غيّروا مفهوم الدفاع تمامًا وجعلوا من مركز الحراسة أحد أكثر المراكز تطورًا وإبداعًا في كرة القدم الحديثة.
من الحارس التقليدي إلى "الليبرو الحديث"
في الماضي، كان الحارس هو اللاعب الأقل مشاركة في اللعب بالكرة.
كل ما يُطلب منه هو الإمساك بالكرات أو إبعادها بعيدًا عن المرمى.
لكن كرة القدم الحديثة تغيّرت، وأصبح الضغط العالي وسرعة التحول الهجومي يتطلبان حراسًا يجيدون استخدام أقدامهم والتفكير بسرعة.
هنا بدأ يظهر مفهوم "Sweeper Keeper" أو "الحارس الليبرو"، أي الحارس الذي يخرج من منطقته لمساندة الدفاع، يقطع الكرات، يبدأ الهجمات، ويتحكم في الإيقاع من الخلف.
هذا التغيير لم يحدث فجأة، بل كان نتيجة تطور تدريجي عبر أجيال من الحراس المبدعين.
1. مانويل نوير.. الثورة الألمانية
لا يمكن الحديث عن حراس غيّروا مفهوم الدفاع دون ذكر مانويل نوير، أسطورة بايرن ميونخ ومنتخب ألمانيا.
نوير لم يكن فقط حارسًا، بل كان قائد الدفاع ومدافعًا إضافيًا.
في كأس العالم 2014، قدّم أداءً خرافيًا ضد الجزائر عندما لعب دور "الليبرو" حرفيًا، فكان يخرج من منطقته لقطع الكرات العالية والتمريرات الطولية، مما منح فريقه سيطرة تامة على الملعب.
نوير أثبت أن الحارس يمكن أن يكون لاعبًا أساسيًا في بناء الهجمة،
وأنه لا يجب أن ينتظر الكرة، بل يصنع الفرق بجرأته وتحكمه المذهل بالقدم.
بفضله، أصبحت أندية كثيرة تبحث عن حراس "يجيدون اللعب بالكرة" قبل أي شيء آخر.
2. إيدرسون.. الممر السري للهجمات
حارس مانشستر سيتي إيدرسون موراييس هو مثال آخر على التطور الحديث في مركز الحراسة.
يمتلك دقة تمرير مذهلة تجعله أحد أفضل "الموزعين" في العالم، رغم أنه حارس مرمى!
إيدرسون قادر على تمرير الكرة بدقة لمسافة تتجاوز 70 مترًا، سواء لزميل منطلق خلف الدفاع أو لبدء هجمة منظمة من الخلف.
بيب جوارديولا، مدرب مانشستر سيتي، اعتمد عليه كأساس في فلسفة "اللعب من الخلف"،
فهو لا يصد الكرات فقط، بل يشارك فعليًا في تكوين الهجمات وتمرير الكرة تحت الضغط،
ما جعل الخصوم يعانون في تنفيذ الضغط العالي على السيتي.
بعبارة أخرى، إيدرسون لا يحرس المرمى فقط، بل يصنع الأهداف من دائرته!
3. أليسون بيكر.. التوازن المثالي
في ليفربول، يُعتبر أليسون بيكر من أكثر الحراس اكتمالًا في العالم.
جمع بين هدوء نوير ودقة إيدرسون، وأضاف إليهما حسًا تكتيكيًا عاليًا.
فهو حارس يعرف متى يخرج من مرماه، ومتى يمرر بسرعة أو يقتل اللعب لتهدئة الرتم.
في موسم 2018-2019، أنقذ ليفربول من مواقف حرجة بقراءته الممتازة للمباراة،
وكان أحد أسباب تتويج الفريق بدوري الأبطال.
أليسون أيضًا ساهم في هدف شهير، عندما أرسل تمريرة طولية دقيقة لزميله محمد صلاح ضد مانشستر يونايتد،
لتتحول تلك التمريرة إلى هدف حسم اللقاء.
هذا النوع من الحراس يثبت أن الذكاء والهدوء لا يقلان أهمية عن المهارة الفنية.
4. مارك أندريه تير شتيغن.. اللاعب رقم 11
في برشلونة، يُعتبر تير شتيغن أكثر من مجرد حارس مرمى.
فهو يشارك في بناء اللعب كما يفعل أي مدافع أو لاعب وسط.
أسلوب برشلونة المعتمد على الاستحواذ يتطلب من الحارس أن يكون ممرًا موثوقًا،
وتير شتيغن برع في ذلك، حيث تمر معظم الكرات من قدمه عند بدء الهجمات.
ما يميزه أنه لا يلجأ إلى التمريرات العشوائية، بل يختار التمريرة المثالية تحت الضغط،
حتى أمام أعنف المهاجمين، وهو ما جعله عنصرًا تكتيكيًا لا غنى عنه في الفريق.
5. أندريه أونانا.. الجرأة الإفريقية
الحارس الكاميروني أندريه أونانا الذي تألق مع أياكس ثم مانشستر يونايتد،
هو نموذج آخر للحارس "المتحكم"، الذي لا يخاف من الاحتفاظ بالكرة داخل منطقة الجزاء.
أونانا يجيد كسر خطوط الضغط بتمريرات قصيرة دقيقة،
ويُعتبر من أكثر الحراس تقدمًا في الملعب، حيث يلعب أحيانًا حتى منتصف الملعب في بعض المباريات.
هذه الجرأة جعلته محبوبًا من المدربين الذين يبحثون عن أسلوب هجومي يبدأ من الخلف،
لكنه أيضًا أثار الجدل أحيانًا بسبب المخاطرة المفرطة، مما يعكس خط رفيع بين الإبداع والمجازفة.
6. ياشين.. الأسطورة التي بدأت كل شيء
قبل كل هؤلاء، كان هناك ليف ياشين، الحارس الروسي الوحيد الذي فاز بالكرة الذهبية عام 1963.
رغم أن زمنه لم يكن زمن التكنولوجيا أو التكتيك الحديث،
إلا أنه كان أول من كسر فكرة أن الحارس يجب أن يبقى على خط المرمى.
ياشين كان يخرج لمقابلة المهاجمين، ويوجّه الدفاع، ويشارك في التمريرات،
حتى لقّب بـ "العنكبوت الأسود" بفضل ردة فعله الخرافية وسيطرته على منطقة الجزاء.
هو أول من أعطى لمركز الحراسة بُعدًا قياديًا،
ومن دونه ربما لم يكن العالم ليشهد حراسًا مثل نوير أو أليسون.
كيف غيّر هؤلاء مفهوم الدفاع؟
ما فعله هؤلاء الحراس لا يقتصر على مهارات فردية فقط، بل غيّر طريقة تفكير المدربين:
- أصبح الحارس جزءًا من خطة بناء اللعب.
- الدفاع الحديث يعتمد على الحارس في كسر ضغط الخصم.
- زادت أهمية التواصل بين الحارس وخط الدفاع.
- التدريب على استخدام القدمين أصبح جزءًا أساسيًا في الأكاديميات.
لقد تحوّل الدفاع من مهمة جماعية تبدأ من المهاجم وتنتهي بالحارس،
إلى نظام متكامل يبدأ من الحارس نفسه.
مستقبل مركز الحراسة
يبدو أن المستقبل سيشهد المزيد من التطور في هذا المركز.
ربما نرى قريبًا حراسًا يحرزون الأهداف بشكل متكرر أو يشاركون في تمريرات حاسمة أكثر.
التكنولوجيا والتحليل بالفيديو جعلت الحراس اليوم أكثر وعيًا بزاويا التمرير والتغطية،
ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى عالم التدريب، سنرى حراسًا يفكرون كلاعبي وسط ميدان تمامًا.
الخلاصة
من نوير إلى إيدرسون، ومن ياشين إلى أليسون،
لم يعد الحارس مجرد "منقذ" للكرات، بل أصبح العقل الدفاعي والهجومي للفريق.
بفضل هؤلاء، تغيّر مفهوم الدفاع في العالم،
وصار الحارس اليوم صانع لعب، ومهندس تمركز، وقائد من الخلف.
إنهم الجيل الذي أثبت أن كرة القدم الحديثة لا تُلعب فقط بالأقدام، بل بالعقول أيضًا.
