Ad

أسرار أعمق نقطة في محيطات العالم

 



في مكانٍ ناءٍ من المحيط الهادئ، تقع منطقة غامضة لم تطأها قدم إنسان إلا مرات معدودة، يُطلق عليها خندق ماريانا (Mariana Trench) — أعمق نقطة معروفة في محيطات كوكب الأرض. هذه البقعة المظلمة والمخيفة لا تُشبه أي مكان آخر على وجه الأرض، إذ تقع على عمق يزيد عن 11 كيلومترًا تحت سطح البحر، أي أعمق من ارتفاع جبل إيفرست لو قلبناه رأسًا على عقب!
لكن، ما الذي يجعل هذه النقطة فريدة إلى هذا الحد؟ وماذا اكتشف العلماء في أعماقها؟ إليك في هذا المقال رحلة مثيرة إلى أعمق نقطة في العالم، وما تحمله من أسرار مذهلة تتحدى خيالنا وحدود العلم ذاته.


أولًا: موقع خندق ماريانا

يقع خندق ماريانا في الجزء الغربي من المحيط الهادئ، شرق الفلبين وجنوب اليابان، بالقرب من جزر ماريانا الشمالية، التي سُمّي باسمها.
أما أعمق نقطة فيه فتُعرف باسم تشالينجر ديب (Challenger Deep)، وسُميت بهذا الاسم نسبة إلى السفينة البريطانية “تشالينجر” التي أجرت أول قياس لعمقه في عام 1875.

في تلك البقعة، يصل الضغط إلى أكثر من 1000 مرة من الضغط الجوي عند سطح البحر — أي أن كل سنتيمتر مربع هناك يتعرض لقوة تقدر بأكثر من 8 أطنان! لذلك، لا يمكن لأي غواصة تقليدية أو إنسان أن يتحمل هذه الظروف دون تقنيات متطورة للغاية.


ثانيًا: كيف اكتُشف أعمق مكان في العالم؟

بدأت قصة اكتشاف خندق ماريانا في أواخر القرن التاسع عشر عندما أبحرت سفينة الأبحاث البريطانية HMS Challenger بين عامي 1872 و1876 في أول رحلة علمية لاستكشاف أعماق المحيطات.
استخدم العلماء في ذلك الوقت حبالًا ثقيلة وأوزانًا معدنية لقياس العمق، وتوصّلوا إلى أن المنطقة تحتوي على انخفاض حاد للغاية في قاع البحر.

لكن القياسات الدقيقة لم تُعرف إلا في منتصف القرن العشرين، عندما استخدمت الغواصة Trieste التابعة للبحرية الأمريكية عام 1960 تقنيات متطورة للوصول إلى قاع الخندق.
قاد الرحلة العالم السويسري جاك بيكار والضابط الأمريكي دون والش، ووصلوا إلى عمق 10,916 مترًا — وهو رقم مذهل آنذاك.

ومنذ ذلك الوقت، تمت زيارات قليلة جدًا للخندق، أبرزها من قبل المخرج العالمي جيمس كاميرون عام 2012، الذي غاص منفردًا في مركبة خاصة إلى عمق يزيد على 10,900 متر، موثقًا مشاهد لم تُرَ من قبل.


ثالثًا: الحياة في الظلام الدامس

ربما يبدو المكان غير قابل للحياة، لكن الحقيقة مذهلة — فحتى في هذا الظلام الكامل والضغط الساحق، تزدهر حياة غريبة لا نجد لها مثيلًا في أي مكان آخر.

الكائنات العجيبة هناك تشمل:

  • الأسماك الحلزونية (Snailfish): مخلوقات شفافة تشبه الجيلي، تعيش في أعماق تتجاوز 8,000 متر، وتتحمل الضغط الهائل بفضل أجسامها اللينة التي لا تحتوي على عظام صلبة.
  • الكائنات الدقيقة (Microbes): بكتيريا نادرة تعيش داخل الرواسب المعدنية وتتغذى على المواد العضوية المتحللة، ما يجعلها جزءًا مهمًا من دورة الحياة في أعماق المحيط.
  • الديدان العملاقة والجمبري الأبيض: التي تعيش قرب فتحات حرارية أرضية تنفث الماء الساخن والغازات السامة، ومع ذلك تتأقلم معها تمامًا.

يعتقد العلماء أن هذه الكائنات قد تساعدنا يومًا ما في فهم أصل الحياة، وربما تمنحنا مفاتيح لتطوير أدوية أو تقنيات جديدة.


رابعًا: الظروف القاسية التي تتحدى الفيزياء

في أعمق نقطة من خندق ماريانا، لا يوجد ضوء على الإطلاق، والحرارة تكاد تقترب من الصفر.
الضغط الهائل هناك يمكنه سحق غواصة فولاذية سميكة في لحظات، لذلك تحتاج المركبات التي تنزل إلى تلك الأعماق إلى جدران مصنوعة من مواد خاصة مثل التيتانيوم ومركبات الكربون المقواة.

ويُعد التواصل من هناك شبه مستحيل، فالموجات اللاسلكية لا تنتقل في الماء على هذا العمق، ما يجعل كل رحلة إلى الخندق مغامرة علمية محفوفة بالمخاطر.


خامسًا: خندق ماريانا في نظر العلماء اليوم

في السنوات الأخيرة، أصبح خندق ماريانا محور اهتمام العلماء في مجالات متعددة — ليس فقط الجيولوجيا أو علم الأحياء، بل أيضًا علوم البيئة والكيمياء والفيزياء.
فقد اكتشف الباحثون أن قاع الخندق يحتوي على كميات ضخمة من المواد البلاستيكية الدقيقة، مما يعني أن التلوث البشري وصل حتى إلى أعمق نقطة على الكوكب.

كما تُظهر الدراسات أن الخندق يلعب دورًا مهمًا في دورة الكربون على الأرض، إذ تسقط بقايا الكائنات الميتة والمواد العضوية إلى القاع، حيث تُدفن لملايين السنين، مما يساعد على توازن مناخ الكوكب.


سادسًا: أسرار لم تُكشف بعد

رغم كل هذه الاكتشافات، ما زال خندق ماريانا يخفي الكثير من الأسرار.
فالعلماء يعتقدون أن هناك أنواعًا من الكائنات لم تُكتشف بعد، وربما تحتوي الصخور والرواسب هناك على أشكال حياة مجهرية فريدة لا تحتاج إلى ضوء أو أكسجين.

كما تُجرى دراسات حول إمكانية وجود مؤشرات على حياة فضائية، إذ تشبه الظروف في قاع الخندق بيئات يُعتقد أنها موجودة في أقمار مثل "يوروبا" التابع للمشتري و"إنسيلادوس" التابع لزحل.


سابعًا: التكنولوجيا تغزو الأعماق

بفضل التقدم في تقنيات الذكاء الاصطناعي والروبوتات، أصبح بإمكان العلماء اليوم إرسال غواصات غير مأهولة إلى عمق الخندق لجمع عينات وتصوير فيديوهات عالية الدقة.
أحدث هذه المركبات هو “Deep Discoverer” الذي استخدمته الإدارة الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA)، حيث التقط مشاهد مدهشة لشعاب بحرية وأحياء دقيقة لم تُر من قبل.

وفي المستقبل، يُتوقع أن تُستخدم هذه التقنية في التنقيب العلمي عن المعادن النادرة مثل النيكل والكوبالت والمنغنيز، الموجودة بكثرة في رواسب قاع الخندق.


ثامنًا: الجانب الفلسفي للأعماق

خندق ماريانا ليس مجرد موقع علمي فحسب، بل رمز لفكرة أن حدود المعرفة البشرية لا نهاية لها.
فعندما وصل الإنسان إلى قمم الجبال، بدأ يبحث عن أعماق البحار، وعندما وصل إلى هناك، أدرك أن ما لا يعرفه أكثر بكثير مما اكتشفه.

الأعماق المظلمة لخندق ماريانا تُذكرنا بأن كوكبنا ما زال مليئًا بالأسرار التي تنتظر من يكتشفها — وأن الفضول البشري هو القوة التي تدفعنا دومًا لاكتشاف ما وراء المجهول.


الخلاصة

أعمق نقطة في محيطات العالم ليست مجرد حفرة في قاع البحر، بل عالم كامل يعيش في الظلام والضغط والهدوء الأبدي.
إنها شهادة على قدرة الحياة على التكيف، وعلى حدود الإنسان في سعيه للفهم.
ورغم أننا نعرف اليوم أكثر من أي وقت مضى عن خندق ماريانا، إلا أن هناك دائمًا أسرارًا أعمق بانتظار من يجرؤ على النزول أكثر.

في النهاية، تبقى هذه الأعماق المظلمة مرآةً لما لم نكتشفه بعد — لا في المحيط، ولا في أنفسنا.

تعليقات

Ad

Ad

إخلاء مسؤولية: تدير منصة معلومة نيوز بلس محتواها وفقًا لأفضل الممارسات المهنية. الآراء الواردة في المقالات تعبر عن وجهة نظر كاتبيها ولا تعكس بالضرورة رأي الإدارة. نحن نبذل جهدًا معقولاً لضمان دقة المعلومات، لكننا لا نتحمل مسؤولية أي أخطاء قد تطرأ، أو أي قرارات يتخذها القارئ بناءً على محتوى الموقع.