أصبح الهاتف الذكي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية. فهو رفيقنا في العمل، والترفيه، والتواصل، وحتى في التعلم. لكن مع هذا الاستخدام المكثّف، بدأ كثير من الناس يلاحظون ضعفًا في النظر، وإجهادًا في العينين، وصداعًا متكررًا بعد فترات طويلة من التحديق في الشاشة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا يضعف النظر بعد استخدام الهاتف لفترات طويلة؟ وهل يمكن أن يؤدي هذا الاستخدام إلى مشكلات بصرية دائمة؟
هذا المقال يقدم شرحًا علميًا دقيقًا ومبسطًا للأسباب التي تجعل النظر يتأثر سلبًا بالاستخدام الطويل للهاتف، ويستعرض العوامل الخفية وراء الإجهاد البصري، وتأثير الضوء الأزرق، وسلوكياتنا الخاطئة، مع نصائح عملية للحفاظ على صحة العينين.
أولًا: كيف تعمل العين أثناء النظر إلى الهاتف؟
لفهم سبب ضعف النظر، يجب أن نعرف كيف تعمل العين أثناء استخدام الهاتف.
عندما تنظر إلى شاشة صغيرة قريبة من وجهك، تُجبر عضلات العين على الانقباض باستمرار للتركيز على المسافات القريبة.
هذه العضلات، مثل أي عضلة في الجسم، تُرهق مع الوقت عند الاستخدام المتكرر دون راحة.
بالإضافة إلى ذلك، يقل معدل الرَمش أثناء النظر إلى الشاشات — من حوالي 15–20 مرة في الدقيقة إلى 5–7 مرات فقط.
قلة الرَمش تعني أن سطح العين يجفّ، مما يسبب حرقة، واحمرارًا، وتشوشًا في الرؤية.
ثانيًا: الضوء الأزرق وتأثيره على العين
واحد من أخطر العوامل التي تسبب ضعف النظر مع استخدام الهاتف هو الضوء الأزرق المنبعث من الشاشات.
ما هو الضوء الأزرق؟
الضوء الأزرق هو نوع من الضوء المرئي ذو طاقة عالية وطول موجي قصير، يصدر من مصادر عديدة مثل الهواتف، وأجهزة الكمبيوتر، وأجهزة التلفاز، وحتى الإضاءة البيضاء الحديثة (LED).
كيف يؤثر على العين؟
الضوء الأزرق يخترق الطبقات الأمامية من العين ليصل إلى الشبكية — وهي الطبقة الحساسة للضوء التي تحول الإشارات إلى الدماغ.
التعرّض المستمر له يؤدي إلى:
- إجهاد شبكي بسبب التحفيز المستمر للخلايا الحساسة.
- اضطراب في الساعة البيولوجية؛ لأن الضوء الأزرق يثبّط إفراز هرمون الميلاتونين المسؤول عن النوم.
- إمكانية تلف الخلايا البصرية مع الوقت، وفقًا لبعض الدراسات الحديثة التي تربط بين التعرض المزمن للضوء الأزرق وزيادة خطر التنكس البقعي.
ثالثًا: قصر النظر الرقمي (Digital Myopia)
من أبرز الظواهر الحديثة التي ظهرت مع انتشار الأجهزة الذكية ما يُعرف بـ قصر النظر الرقمي.
يحدث هذا عندما تتعود العين على التركيز على الأجسام القريبة (كالهاتف أو الحاسوب)، فتضعف قدرتها على التركيز على الأجسام البعيدة بمرور الوقت.
الأسباب الرئيسية:
- النظر إلى الشاشات من مسافة قريبة جدًا (أقل من 30 سم).
- الاستخدام المستمر دون فترات راحة.
- قلة التعرّض للضوء الطبيعي أثناء النهار، مما يقلل من نشاط العضلات المسؤولة عن ضبط البؤرة.
وقد أثبتت دراسات حديثة أن الأطفال والمراهقين الذين يستخدمون الهواتف لساعات طويلة يوميًا أكثر عرضة للإصابة بقصر النظر المبكر بنسبة تصل إلى 60% مقارنة بمن يستخدمونها بشكل معتدل.
رابعًا: متلازمة الرؤية الحاسوبية (Computer Vision Syndrome)
رغم أن اسمها يوحي باستخدام الحاسوب فقط، فإنها تشمل أيضًا استخدام الهواتف والأجهزة اللوحية.
هذه المتلازمة تشمل مجموعة من الأعراض الناتجة عن النظر الطويل للشاشات، وأهمها:
- إجهاد العينين والشعور بالثقل أو الضغط خلفهما.
- تشوش الرؤية المؤقت أو ازدواجها.
- الصداع وخاصة في الجبهة وحول العينين.
- آلام الرقبة والكتفين نتيجة الوضعيات الخاطئة أثناء الاستخدام.
- جفاف العينين بسبب قلة الرمش.
تشير دراسات الجمعية الأمريكية للبصريات إلى أن حوالي 70% من مستخدمي الأجهزة الرقمية يعانون من أعراض هذه المتلازمة بدرجات متفاوتة.
خامسًا: استخدام الهاتف في الظلام
من أكثر العادات ضررًا على الإطلاق هي استخدام الهاتف في الإضاءة المنخفضة أو الظلام التام.
في هذه الحالة، تضطر العين إلى التكيف مع تباين شديد بين سطوع الشاشة والظلام المحيط، مما يجهد العضلات البصرية بشدة.
كما أن الحدقة (بؤبؤ العين) تتقلص وتتمدد باستمرار، مسببة ألمًا وإرهاقًا مع الوقت.
النتيجة؟ صداع، تشوش، وضعف مؤقت في النظر، ومع الاستمرار قد يتحول إلى حساسية مزمنة للضوء.
سادسًا: التوتر العقلي وتأثيره على العين
قد يبدو غريبًا، لكن الإجهاد النفسي الناتج عن استخدام الهاتف — مثل الإفراط في تصفح الأخبار أو مواقع التواصل — يؤثر على النظر أيضًا.
التوتر يزيد من إفراز هرمونات مثل الكورتيزول، التي تسبب انقباض الأوعية الدموية الدقيقة في العين، مما يقلل من تدفق الدم والأوكسجين إلى أنسجة الشبكية.
كما أن التوتر المستمر يؤدي إلى تشنج عضلات العين وصعوبة التركيز البصري، وهو ما يفسر لماذا يشعر البعض بتشوش النظر بعد جلسة طويلة من استخدام الهاتف.
سابعًا: العادات الخاطئة أثناء استخدام الهاتف
بجانب العوامل البيولوجية، هناك سلوكيات يومية تزيد من خطر ضعف النظر، منها:
- النظر المستمر دون راحة لأكثر من 30 دقيقة.
- مسافة الهاتف القريبة جدًا من العينين.
- عدم ضبط سطوع الشاشة بما يتناسب مع الإضاءة المحيطة.
- الانحناء المفرط للرأس أثناء الاستخدام، مما يضغط على الرقبة ويؤثر على تدفق الدم إلى العينين.
- استخدام الهاتف قبل النوم مباشرة، مما يرهق العين ويؤثر على النوم والراحة البصرية.
ثامنًا: تأثير الاستخدام الطويل على الأطفال والمراهقين
العين في مرحلة النمو أكثر حساسية بكثير من عين البالغ.
الاستخدام المفرط للهاتف في سن مبكرة قد يؤدي إلى:
- تطور مبكر لقصر النظر.
- خلل في النمو الطبيعي لعدسة العين.
- ضعف الانتباه البصري وتراجع الأداء الدراسي.
- اضطرابات نوم بسبب الضوء الأزرق وتأثيره على الساعة البيولوجية.
وقد حذّرت منظمة الصحة العالمية من أن الأطفال الذين يقضون أكثر من ساعتين يوميًا أمام الشاشات معرضون لمشكلات بصرية وسلوكية في المستقبل.
تاسعًا: هل يسبب الهاتف ضررًا دائمًا للنظر؟
الإجابة تعتمد على مدة الاستخدام وطريقة الاستخدام.
في معظم الحالات، ضعف النظر الناتج عن استخدام الهاتف هو مؤقت وقابل للعلاج إذا تم تعديل السلوكيات الخاطئة.
لكن في حال الإهمال والاستمرار في التعرض الطويل دون راحة أو وقاية، يمكن أن يؤدي إلى:
- تفاقم قصر النظر.
- إجهاد مزمن في العضلات الهدبية داخل العين.
- اضطرابات دائمة في الرؤية الليلية.
عاشرًا: كيف تحمي عينيك من أضرار الهاتف؟
إليك مجموعة من النصائح الفعّالة التي يوصي بها أطباء العيون وخبراء البصريات:
-
اتباع قاعدة 20-20-20:
بعد كل 20 دقيقة من النظر إلى الشاشة، انظر إلى جسم يبعد 20 قدمًا (حوالي 6 أمتار) لمدة 20 ثانية. -
ضبط سطوع الشاشة:
اجعل الإضاءة متوازنة بحيث لا تكون الشاشة أكثر سطوعًا أو أكثر ظلمة من الإضاءة المحيطة. -
استخدام الوضع الليلي (Night Mode):
يساعد على تقليل الضوء الأزرق خاصة في المساء. -
الحفاظ على مسافة آمنة:
اجعل الهاتف على بعد 30–40 سم من عينيك، ومستوى الشاشة قريبًا من مستوى النظر. -
زيادة معدل الرمش:
ذكّر نفسك بالرمش باستمرار لترطيب العينين. -
الابتعاد عن الهاتف قبل النوم:
يفضل التوقف عن استخدام الهاتف قبل النوم بـ 30 دقيقة على الأقل. -
زيارة طبيب العيون بانتظام:
للفحص الدوري واكتشاف أي تغيرات مبكرًا.
الحادي عشر: دور التغذية في تقوية النظر
الحفاظ على صحة العين لا يعتمد فقط على السلوك البصري، بل أيضًا على التغذية.
هناك عناصر غذائية أساسية تحافظ على الشبكية والعدسة، مثل:
- فيتامين A: موجود في الجزر، والكبد، والبطاطا الحلوة.
- اللوتين والزياكسانثين: موجودان في السبانخ والكرنب الأخضر، يحميان العين من الضوء الأزرق.
- أوميغا 3: في الأسماك الدهنية مثل السلمون، يساعد على ترطيب العين.
- فيتامين C وE والزنك: مضادات أكسدة تحارب تلف الخلايا البصرية.
الثاني عشر: التكنولوجيا الحديثة وحلول الحماية
الشركات التقنية بدأت تدرك مخاطر الشاشات على النظر، لذلك طورت أدوات للحد من الأضرار مثل:
- فلاتر الضوء الأزرق (Blue Light Filters).
- شاشات بتقنية e-Ink في بعض الأجهزة لتقليل الوهج.
- نظارات مضادة للضوء الأزرق لمن يقضون وقتًا طويلًا أمام الأجهزة.
كما أن بعض الهواتف الحديثة باتت تتيح إشعارات تذكير بالراحة البصرية كل فترة، وهي ميزة بسيطة لكنها فعّالة جدًا.
استخدام الهاتف الذكي أصبح أمرًا لا يمكن الاستغناء عنه، لكن العيون لم تُصمم لتحمّل ساعات من التركيز على الشاشات المضيئة.
ضعف النظر الناتج عن الاستخدام الطويل ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجة سلوكيات خاطئة يمكن تصحيحها.
إذا أدركنا أن الهاتف أداة نافعة لكنها ليست بلا ثمن، واستطعنا الموازنة بين التكنولوجيا وصحتنا البصرية، سنحافظ على نعمة البصر لأطول وقت ممكن.
فالعين ليست مجرد وسيلة للرؤية، بل نافذتنا إلى العالم — وعلينا أن نحميها كما نحمي قلوبنا وعقولنا.
